«قطار ريال مدريد لا يأتي إلا مرة واحدة بالعمر، يمكنك أن تتخذ قرارك: إما الآن وإلا فلا».
قد تسخر من تلك العبارة لكثرة ما تم ابتذالها من الشامتين من خصوم النادي الملكي، أو لأنك عاصرت هذا القطار بالفعل وهو يزعق تحت شرفة كيليان مبابي صبحاً ومساءً، في الشتاء والصيف، لسنين طويلة، قبل أن يصل بسلام إلى المحطة. لكن أمراً كهذا، لا يجعل من طرق ريال مدريد الباب من أجل لاعب في بداية مسيرته أو في أوجها أو حتى في نهايتها فرصة عادية.
وبالنسبة للمواهب الشابة تحديداً، فالأمر جد خطير. يعتدل اللاعبون في جلستهم وربما يقفون على أطراف أصابعهم، إذا حدثهم وكلاؤهم عن اهتمام من النادي الملكي، ويطمحون إلى تسوية الأمور في غمضة عين. ولكن: ماذا بعد؟
نظرة سريعة في عمق الفريق الإسباني تكفي لتلحظ بسهولة حالة التشبع في كافة المراكز باستثناء خط الدفاع. ليس تشبعاً عادياً يفك بخروج اسمين أو أكثر ممن انقضى وقتهم داخل جدران اللوس بلانكوس، وإنما ثلة ضخمة من المواهب المتحققة وغير المتحققة في أول العشرينيات أو منتصفها على أقصى تقدير.
فما الذي يدور بعقل بيريز، هل يجلب تلك المواهب لتنمو وتكبر أم ليدفنها بيده قبل أن تصل إليها يد أي منافس له؟
في كتاب «التجميع: شغف جامح» للمحلل النفسي الألماني فيرنر مونستربيرجر، يصف الأشخاص المهووسين بتجميع الأشياء، على أنهم مجموعة بشرية تعاني عطشاً لا يروى. ويرجع فيرنر هذا العطش لحاجة طفولية لم تلبَ أبداً في سِني التكوين، فصار الهوس بتلبيتها في الوقت الحاضر جزءاً من التركيب الشخصي، ومبعث شعور دفين بالاطمئنان والتحقق.
لا ندعي أن بيريز في طفولته قد عانى شيئاً من هذا، لكننا نعرف أنه قد حرم حاجة سعى وراءها لسنين، وقد ظن أنه تملكها وصارت في يديه، لتصفعه الحاجة وتقسم لغيره.
عام 2005 زار نيمار مدريد للمرة الأولى في حياته مع والده، حيث أمضى ثلاثة أسابيع كاملة في فندق فخم تغطي نفقاته إدارة النادي الملكي، ويتدرب في أكاديمية النادي ويجالس كبار النجوم مثل رونالدو وزيدان وروبينيو، الذي توقعت إدارة النادي أن يمشي على خطاه ويلحق بالركب الأبيض قادماً من سانتوس.
أغرى مدريد نيمار وأسرته بكل السبل: التكفل بتعليم الابن، ومنزل للأسرة، ووظيفة للأب. حتى إنهم وقعوا العقود من جهتهم، ولم يبق سوى توقيع والدة اللاعب في البرازيل. عاد نيمار إلى البرازيل ليقرر وعائلته أن من الأفضل له أن تصنع سنوات تأسيسه على عين الأسرة، فوق تراب الوطن.
لكن قطار مدريد، إذ يمر للمرة الأولى بآخرين، لم يجد حرجاً في أن يعرج على نيمار وأسرته ووكيله مرة أخرى، ثم مرة ثالثة، حتى نفد الوقود وسبق قطار الغريم.
لم يشعر بيريز بالأرض وهي تميد من تحته، إنه لم يفشل فقط في تأمين موهبة فذة طاردها لسنين، بل استقرت تلك الموهبة في أحضان غريمه الأول وعدوه اللدود: برشلونة.
ربما لم يشعر أحد بحسرة بيريز بقدر ما شعر بها خيسوس جوتيريز مدرب أكاديمية مدريد الذي كان مسئولاً عن الحصص التدريبية العشر التي قضاها نيمار مع مدريد، لأنه عرف ما رأى منذ اللحظة الأولى: «لم أر في حياتي طفلاً بعمره يملك تلك المهارة. لقد كان الأفضل. كمدريدي؛ أشعر بغصة في حلقي أن النادي لم يبرم عقده في وقتها؛ كان نيمار من الممكن أن يصبح ميسي ريال مدريد».
من وقتها، عزم بيريز ألا يلدغ من نفس الجحر مرتين.
ظل بيريز يفتش عن نيمار في كل مكان، ولا داعي لاعتراض الحديث بالتأكيد على أن نيمار كان في برشلونة ومدريد كلها تعلم ذلك. لكنه ظل يبحث عما وجده في نيمار: تلك الموهبة المتفجرة، في تلك السن الصغيرة، في ذلك البلد البعيد، بذلك الأسلوب الفريد.
وجد بيريز ضالته في صحفي ذي خبرة واسعة بكرة القدم في أمريكا الجنوبية، يدعى خوسيه أنطونيو كالافات، وشهرته جوني. امتلك جوني حاسة خاصة في رصد المواهب في مراحلها الأولى، ووافق ذلك هوى في نفس بيريز، لقد كان هذا ما يبحث عنه بالضبط.
كان ترشيحه الأول الذي أمن دخول كاسيميرو للنادي الملكي صك أمان وثقة، أتبعه بفيدي فالفيردي الذي تحول في وقت وجيز إلى رئة لا يستغني عنها النادي الملكي، ومن ثم الثلاثي البرازيلي الحالي: فينيسيوس جونيور، رودريغو، آندريك.
تعلم جوني من درس نيمار الذي لم يكن ضحيته بالأساس، وسلك نهجاً يقوم على الصبر المدروس؛ حتى أنه ظل يتحدث مع فينيسيوس وعائلته لـ14 شهراً، وظل يتابع رودريغو أربع سنوات كاملة، قبل أن يؤمن انتقال الثنائي، واحداً بعد الآخر.
قد يرى البعض أن انتزاع تلك المواهب من تربتها في سن صغيرة، وزرعها في أوروبا مخاطرة غير مدروسة، قد تودي بمسيرة أولئك اللاعبين، لو لم تتوفر لهم سبل التأقلم والدعم الكافي، والأمثلة على ذلك كثيرة.
يؤمن الشاعر الروماني جوفينال أن الرجال يتعطشون للمجد أكثر منه للفضيلة. وبيريز وكالافات من أولئك الرجال الذين لا يجبنون عن أخذ مخاطرة ستثمر لاعباً سيكون بعد سنين قليلة أفضل لاعبي العالم، لكنها حتماً ستسفر عن بعض الأضرار الجانبية.
بزغ نجم خيسوس مع فلامينغو البرازيلي، ولفت أنظار عدة فرق من أوروبا، مثل مانشستر سيتي وآياكس وبروسيا دورتموند وغيرها. لكن عيون كالافات في البرازيل أرسلت إشاراتها إلى أن هناك موهبة تستحق المراقبة.
رأى كالافات ما رأته عيونه، وأغدق على خيسوس وأسرته الهدايا والزيارات. حتى لم يعد يرى الشاب الصغير سوى ريال مدريد وفقط؛ لينتهي الأمر وقد دفع الشرط الجزائي للاعب والتحق بالنادي الأبيض.
التحق خيسوس بالكستايا في 2020، قبل أن تأتي جائحة كورونا ويبدأ معها انهياره. عندما عادت الكرة بعد شهور من بداية الجائحة؛ تدرب خيسوس مع فريق زيدان ولكن لم يجد مكاناً له في الفريق المدجج بالنجوم، وكان أفضل من أن يبقى في الفريق الرديف؛ فبدأت سلسلة إعارات لم تنته.
التحق خيسوس بدورتموند لمدة سنتين على سبيل الإعارة، لم يكملها لقلة دقائق اللعب، ليعود إلى إسبانيا معاراً مرة أخرى إلى جيرونا، ومنها إلى نادي فروزينوني الإيطالي. هبط النادي للدرجة الثانية، وعاد رينير مرة أخرى إلى مدريد الذي لم يجد مكاناً له فيه، ليخرج معاراً إلى نادي غرناطة في الدرجة الثانية الإسبانية.
عندما سئل كارلو أنشيلوتي في مؤتمر صحفي عن رينير، وما إذا كان من الممكن أن يمضي على درب مواطنيه فينيسيوس ورودريغو، أجاب: «أنصحه أن يبحث عن ناد يمكن أن يبرز فيه مهاراته».
كان ذلك بمثابة فصل النهاية لقصة رينير مع مدريد.
أجبر التطور في أساليب اللعب خلال العقد الأخير، كثيراً من الفرق على الاعتماد على اللاعبين الصغار أكثر من ذي قبل. وفقاً لتقرير مصور لشبكة «Euronews» بالتعاون مع المدينة الإعلامية بقطر؛ فإن عدد دقائق اللعب الممنوحة للاعبين تحت سن 23 سنة في الأندية أبطال الدوريات الخمس الكبرى موسم 2013/2014، بلغ 29.408 دقائق. وفي خلال عشر سنوات بلغ عدد تلك الدقائق 52.658 دقيقة. أي بنسبة زيادة 55.8%
على سبيل المثال: يبلغ متوسط عمري لاعبي ريال مدريد أردا غولير وآندريك 18.5 سنة، ومع ذلك فقد لعبا مجتمعين هذا الموسم مع ريال مدريد حتى الآن 429 دقيقة فقط. في حين لعب ثنائي برشلونة باو كوبارسي ولامين يامال البالغ متوسط عمريهما 17 سنة، 2.635 دقيقة.
يمكن أن تترجم تلك الإحصاءات على أن ريال مدريد يدير مواهبه بحكمة، وأن برشلونة يستنزف لاعبيه في سن صغيرة. يمكن أيضاً أن تفسر بأن مدريد يشتري المواهب ويكدسها دون خطة واضحة، في حين يقيم برشلونة وزناً لكل موهبة لديه. يمكن أيضاً أن يلتفت لها حين نتحدث عن فوز لاعبي برشلونة بثلاث من آخر أربع نسخ من جائزة الفتى الذهبي.
ويبقى السؤال: هل يكدس الملكي المواهب قهراً أم يحميهم حتى تحين فرصتهم؟ سؤال لا ندعي أن بحوزتنا إجابة شافية عنه. لكننا نملك إجابة كالوم والش، مدرب الأحمال ورئيس علوم الرياضة في نادي نيوكاسل يونايتد، على سؤال آخر.
«أفضل وسيلة يمكن للاعب كرة القدم أن يحافظ من خلالها على لياقته الكاملة؟ أن يلعب كرة القدم»